فوائد وضوابط في عمل النسب
كتب النسب في ميزان النقد العلمي 2/1
علم النسب من المعارف المستحسنة عند العرب، يكثر الحديث عنه في مجالس خلفاء المسلمين وأمرائهم، كما أن له حظاً في مجالس العلماء وطلبة العلم، وأهل الأدب، ومما له صلة بعلم الأنساب أيام العرب وحروبهم في الجاهلية وفي الإسلام.
وهذا العلم لا يليق جهله لذوي الهمم والآداب، خاصة أمراء وعلماء المسلمين، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعرف القبائل ويسأل الوفود عن قبائلهم.
وكان بعض الصحابة يتحدثون فيه ويعرفونه، وكذلك من بعدهم من خلفاء المسلمين، حتى ظهرت الأعاجم على الدولة العباسية في القرن الثالث… والحديث ذو شجون.
وقبل أن أتطرق لنقد كتب النسب أورد بعض الفوائد والضوابط في علم النسب دون شرح لها ولعلي أشرحها إن شاء الله في موضع آخر.
وهذه الفوائد مستخلصة من كتب كثيرة مثل: كتب التفسير وشروح السنة النبوية، وكتب الفقه، وكتب التاريخ، وكتب الأنساب كتب الرحلات، وكتب الأدب واللغة، وكتب معاجم البلدان، وكتب السير والتراجم، ودواوين الشعر وغيرها.
ويمكن تقسيم الفوائد والضوابط إلى قسمين:
القسم الأول: فوائد وضوابط عامة، والقسم الثاني: فوائد وضوابط في تدوين أنساب القبائل الحديثة خاصة في إلحاق القبائل الحديثة بالقديمة.
القسم الأول: فوائد وضوابط عامة في علم النسب:
الفائدة الأولى:
الإسلام هو الذي أعز العرب بعد الذل، وجمع كلمتهم بعد الشتات، فلا عز للعرب إلا بالإسلام والتمسك به قولاً وعملاً.
قال عمر بن الخطاب: “إنكم كنتم أذل الناس، وأقل الناس، وأحقر الناس فأعزكم بالإسلام فمهما تطلبوا العزّ بغيره يذلكم الله”.
وكانت العرب محل ازدراء عند فارس والروم ليس لهم ثقل سياسي، أو علمي حتى منّ الله عليهم بالإسلام. فأكرمهم الله ورفعهم بالإسلام. جاء في الخبر الصحيح أن هرقل ملك الروم قال لأبي سفيان: “قد كنت أعلم أنه خارج -أي النبي- لم أكن أظن أنه منكم”.
وفي البخاري عن جبير بن حيّة قال: “خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفًا فقام ترجمان: فقال: ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة بن شعبة: سل عما شئت. قال: ما أنتم؟! قال: نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد نمصُّ الجلد والنوى من الجموع، ونعبد الشجر والحجر فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات والأرض إلينا نبيا….
ولذلك يتبين لكل عاقل مسلم فسادُ الدعوات القومية الجاهلية وفشلها وآثارها المخزية على العرب خاصة والمسلمين عامة، وما جرت عليهم من هزائم ومذلة مكنت الكفار من بلادهم وسلب خيراتهم.
ولا زالوا يتجرعون مرارتها ويقبعون تحت غمامها القبيح، (ومن يهن اللهُّ فما له من مكرم(1).
الفائدة الثانية:
إن المقياس الحقيقي للإنسان عند الله التقوى، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
قال تعالى: (إِنِّ أَكءرَمَكُمء عِندَ اللهِ أتقَاكُمء)(2).
وقال (: “إنما أنتم ولد آدم طفُّ الصاع لم تمءلؤُه ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين، أو عمل صالح…” رواه أحمد بإسناد حسن.
الفائدة الثالثة:
إن معرفة الأنساب لها فوائد جمّة، ولها أهمية في الإسلام، ويترتب على ذلك أحكام فقهية؛ فلا يعد مذمومًا، ولا يهمل تعلمه ومعرفته ويتركه طلبة العلم للجهلة والكذابين.
قال الحافظ ابن عبدالبر: “ولعمري ما أنصف القائل: إن علم النسب علم لا ينفع وجهاله لا تضر” وقال نحو قوله كثير من أهل العلم.
الفائدة الرابعة:
إنما المذموم منه ما كان فيه دعوة إلى احتقار المسلمين الذين لا ينتسبون إلى قبائل أو المسلمين من الأعاجم، أو تفضيل قبيلة على قبيلة دون مرجح شرعي، أو الطعن في بعض أنساب القبائل ونحو ذلك. فهذا هو المذموم منه الذي ورد فيه الذم من الشارع الحكيم.
قال – صلى الله عليه وسلم – : “أربع من أمر الجاهلية لن يَدعَهُنّ الناس: التعيير بالأنساب، والنياحة على الميت…” الحديث.
الفائدة الخامسة:
تحرم الدعوة إلى الحميّة الجاهلية، وتعظيمها، ومنع الوسائل المؤدية إلى إثارتها. قال تعالى: (إذ جعل الّذين كفرواء في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)(3).
وفي الحديث الصحيح حينما حدث شجار بين المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم ذاك فقال: “ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة ” وفي رواية “دعوها فإنها خبيثة”، وحيث إن الدولة السعودية قامت على أساس سليم وهو المنهج الإسلامي الصحيح، وتوحدت أقاليم في عهد الملك عبدالعزيز لم تتوحد حقيقة منذ مقتل عثمان – رضي الله عنه- وصار الشعب متماسكًا بهذه الدولة كأنها قبيلة واحدة؛ لأن الدولة لم تقم على العصبية، أو العنصرية، وإنما قامت على منهج الإسلام، فيجب علينا أن نحافظ على هذه الأخوة بين المجتمع ونمنع كل وسيلة تدعو إلى العصبية القبلية، أو الإقليمية، وقطعها في أول أمرها حتى لا يستغلها الجهّال والمتربصون بالمجتمع، من أهل النفاق، والشقاق كما فعلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك الوسائل المثيرة للعصبية: حفلات مزايين الإبل لكل قبيلة، واستئجارُ بعض القنوات لبث هذه الاحتفالات، ومنها ما تقوم به بعض القنوات من مسابقات للشعراء، ومنها نشر الكتب الشعبية المليئة بالأغاليط والتطاول على الآخرين وما أكثرها في هذه الأيام!
الفائدة السادسة:
كانت المفاخرة موجودة عند العرب في الجاهلية، وكل قبيلة تذكر أعلامها وأفعالها المحمودة عندهم وكثرتها، ويذكرون ما يوجد عندهم من مكارم الأخلاق مثل: الكرم، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وغير ذلك دون كذب أو حطّ من تاريخ الآخرين، وقد اشتهرت قصائد المنصفات عند العرب.
مثل: بعض أشعار الفارس الصحابي عمرو بن معدي كرب الزبيدي، والفارس الصحابي العباس بن مرداس الحارثي السُّلمي، وقصيدة عبدالشارق الجهني وغيرهم كثير.
وقد حصلت المفاخرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عنهم عام الوفود منها ما حصل من مفاخرة وفد تميم. قال الزبرقان بن بدر يفخر بقومه تميم:
وأنا لنا المرباع في كل غارة
تغير بنجد أو بأرض الأعاجم
وأنا فروع الناس في كل موطن
وأنء ليس في الأرض الحجاز كدارم
وقد رد عليه حسان بن ثابت بقصيدة منها:
بحي حريد أصله وبناؤه بجابية
الجولان وسط الأعاجم
غير أن هذه المفاخرات ضعفت في الإسلام، وأهملت الأسواق التي كانت تقام فيها المفاخرات مثل عكاظ وغيره حتى دمره الأزارقة في القرن الثاني.
وصار فخر المسلمين بالإسلام والانتماء إليه حتى قال قائلهم:
ومما زادني فخرًا وتيهًا
وكنت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي حتى قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبيا
قال حكيم بن حزام – حينما باع دار الندوة على معاوية للدولة وقال له بعض قريش أتبيع مكرة قريش قال: ذهبت المكارم إلا الإسلام.
الفائدة السابعة:
أعلم الناس بأنساب العرب النبي صلى الله عليه وسلم، فما ورد عنه من نص في نسب قبيلة فهو الحق ويجب القول به، ويطرح ما عداه من أقوال مثل: قوله صلى الله عليه وسلم في نسب خزاعة أنهم من خندف وغيرها.
الفائدة الثامنة:
القول بالعرب العاربة والمستعربة محدث -فيما أعلم- لم يعرف في صدر الإسلام، كما أنه مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشر سنة”.
الفائدة التاسعة:
وقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنصار. حيث قال : “يكثر الناس وتقل الأنصار”.
والأنصار هم: الأوس والخزرج وهم من الأزد.
الفائدة العاشرة:
فضل قريش بالنسب على سائر العرب، وتحريم إهانتهم، أو الحطّ من قدرهم وعندي تحفظ من كثرة الانتساب إلى قريش فليس كل من قال إنه من قريش يُعد قرشيًا لكثرة من انتحل الانتساب إليهم قديمًا وحديثًا، حتى من الأعاجم.
علمًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفناء قريش فقال صلى الله عليه وسلم: “أسرع العرب فناءً قريش”.
الفائدة الحادية عشرة:
الانتساب إلى القبيلة أمر أقره الإسلام في الدنيا، وهو في كتاب القدر عند الله.
ففي الحديث: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “هذا كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، وهذا كتاب فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم”.
الفائدة الثانية عشرة:
إن الدعوة إلى حذف انتساب الرجل إلى قبيلة، والاكتفاء بالجد الثالث أو الرابع خاصة في الإثبات الشخصي، من أساليب الاستعمار، حينما استولى على معظم البلاد الإسلامية، وشجعه الشعوبيون والحاقدون على العرب، وقد أحسنت وزارة الداخلية في المملكة حينما أخذت في الإثبات الشخصي بما عليه المسلمون من قبل.
د. عمر بن شريف السلمي
منقول